22
13

ما قيل عن السفر

السفر والرحلات لهما فوائد كثيرة لا تحصى،

 

من أهمها توسيع المدارك والترفيه، وتلبية لرغبات فطرية لدى الإنسان، من حب المخالطة والمرح والمعرفة، وقد ثبت من خلال التجارب العديدة أن مستوى عطاء الانسان بعد الرحلات يرتفع بشكل ملحوظ، ويلتهب الحماس لتقديم أفضل ما لديه، كما أن النشاطات والرحلات الهادفة تفتح آفاق ذهنه على الأفكار الابتكارية والإبداعية.

 

ويعد السفر والرحلات المتنوعة، من الأمور المحببة لدى غالبية الناس، ففيها كما يقولون أُنسٌ بالصديق، وتفريج للضيق، وكسب للمهارات والخبرات ونسمع دوماً جملة شهيرة وهي "للسفر خمس فوائد"

قالها الإمام الشافعي شعراً:

 

تَغَرَّبْ عَنِ الْأَوْطَانِ فِي طَلَبِ الْعُلَى *** وَ سَافِرْ فَفِي الْأَسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِدِ

تَفَرُّجُ هَمٍّ وَ اكْتِسَابُ مَعِيشَةٍ *** وَ عِلْمٌ وَ آدَابٌ وَ صُحْبَةُ مَاجِدِ

فَإِنْ قِيلَ فِي الْأَسْفَارِ ذُلٌّ وَ مِحْنَةٌ *** وَ قَطْعُ الْفَيَافِي وَ ارْتِكَابُ الشَّدَائِدِ

فَمَوْتُ الْفَتَى خَيْرٌ لَهُ مِنْ مَعَاشِهِ *** بِدَارِ هَوَانٍ بَيْنَ وَاشٍ وَ حَاسِد

 

فالشافعي رحمه الله عدّ من فوائد السفر خمس فوائد، وهي: انفراج الهم، واكتساب المعيشة، وحصول العلم، والآداب، وصحبة الأخيار والأمجاد.

 

وقد رد القاضي الطرطوشي على الإمام الغزالي مداعباً، فذكر عوائق السفر فقال:

 

تخلف عن الأسفار إن كنت طالباً *** نجاةً ففي الأسفارِ سبعُ عوائق

تنكر إخوانٍ وفقدُ أحبةٍ *** وتشتيت أموال وخيفة سارق

وكثرة إيحاشٍ وقلة مؤنس *** وأعظمها يا صاح سكنى الفنادق

فإن قيل في الأسفار كسب معيشة *** وعلم وآدابٌ وصحبةُ فائق

فقل ذاك دهر قد تقادم عهده *** وأعقبه دهرٌ كثيرُ العوائق

وهذا مقالي والسلام مؤبد *** وجرّب ففي التجريب علم الحقائق

 

أما الثعالبي فقال مادحاً السفر: من فضائل السفر، أن صاحبه يرى من عجائب الأمصار، ومن بدائع الأقطار ومحاسن الآثار ما يزيده علماً بقدرة الله تعالى.

 

وقال أبو الحسن القيرواني : كتب إلى بعض أخواني: مثل الرجل القاعد كمثل الماء الراكد، إن ترك تغير، وإن تحرك تكدر.

 

وفي هذا يقول الشافعي:

ما في المقام لذي عقل وذي أدب *** من راحة فـدع الأوطان واغتـرب

سافر تجـد عوضـاً عمـن تفارقـه *** وانصَبْ فإن لذيذ العيش في النصـب

إني رأيـت وقـوف المـاء يفسـده *** إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطـب

والأسدُ لولا فراق الأرض ما افترست *** والسهم لولا فراق القوس لم يصـب

والشمس لو وقفت في الفلك دائمـة ً *** لملها الناس من عجـم ومـن عـرب

والتبر كالترب ملقـي فـي أماكنـه *** والعود في أرضه نوع من الحطـب

فـإن تغـرب هـذا عـز مطلـبُـهُ *** وإن تغـرب ذلـك عـز َّ كالـذهـب

 

ومن فوائد الأسفار العزيزة:

إنه يرفع الذل عن الإنسان إذا كان بين قوم لئام، وإذا عاش في وسط يكيدون به، ويتربصون به، وكان هذا الإنسان ذا شأن فليبحث له عن أرض يعرفون قيمته، وقد ورد عن الشافعي أيضا حول هذا المعنى: أنه قال:

ارحل بنفسك عن أرض تضام بها *** ولا تكن من فراق الأهل في حرق

فالعنبر الخام روث في مواطــنه *** وفي التغرب محمول على العنــق

والكحل نوع من الأحجار تنظره *** في أرضه وهو مرمي على الطرق

لما تغرب حاز الفضـل أجمـعه *** فصار يحمل بين الجفـن والحـدق

 

وقال آخر:

إذا ما ضـاق صدرك من بلاد ** ترحّــل طالبـاً أرضـاً سواها

عجبت لمـن يقيم بـدار ذلّ ** وأرض الله واسعــة فضــاها

 

وقال الشاعر:

وإذا البلاد تغيّرت عن حالها ** فـدع المقـام وبـادر التحويـلا

ليس المقام عليك فرضاً واجباً ** في بلـدة تـدع العزيـز ذليـلا

 

وقد عقد شهاب الدين الأبشيهي في كتابه المستطرف في كل فنّ مستظرف فصلاً فيما جاء في الأسفار والاغتراب, وما قيل في الوداع, والفراق والحث على ترك الإقامة بدار الهوان, وحب الوطن, والحنين إليه. فقال: أما ما جاء في الأسفار والحث على ترك الإقامة بدار الهوان: فقد قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا) الآية, وفي الأثر: "سافروا تغنموا", وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "لو يعلم الناس رحمة الله للمسافر, لأصبح الناس على ظهر سفر, وهو ميزان الأخلاق إن الله بالمسافر رحيم". ويقال: "الحركة ولود, والسكون عاقر". وقال حكيم: "السفر يسفر عن أخلاق الرجال".

 

وكان بعضهم يريد السفر, فيمنعه والده إشفاقا عليه؛ فقال يوما:

ألا خلنــــــي لشـاني ولا أكـن ... على الأهل كـــــلا إن ذا لشديــد

تهيبنـي ريب المنون ولم أكـــن ... لأهرب عما ليس منه محيـــد

فلو كنت ذا مــال لقـــرب مجلسي ... وقيل إذا أخطأت أنت رشيــد

فدعني أجول الأرض عمري لعله ... يسر صديق أو يغاظ حسود

 

وقال المأمون: "لا شيء ألذ من السفر في كفاية وعافية؛ لأنك تحل كل يوم في محلة لم تحل فيها, وتعاشر قوما لم تعرفهم".

ومما قيل في ترك الإقامة بدار الهوان قال الفرزدق:

وفي الأرض عن دار القلى متحول ... وكل بلاد أوطنتك بلاد

 

وقال آخر:

وما هي إلا بلدة مثل بلدتي ... خيارهما ما كان عوناً على دهر

 

وسُمّي السفر سفراً ؛ لأنه يسفر عن وجوه المسافرين وأخلاقهم ، فيظهر ما كان خافياً منها .. وقالت العرب: لا يُصلح النفوس إذا كانت مدبّرة، إلا التنقّل من حال إلى حال .. وقيل: من يسافر يصبح حكيماً ، وليس حكيماً من يبقى في البيت ... فالمسافر يجمع العجائب ، ويكسب التجارب ، ويجلب المكاسب .

وقيل أيضا: السفر ميزان القوم ... ولا نستمع إلى ما يقولون نذهب لنرى، والسفر مرة واحدة لرؤية مايستحق أفضل من الاستماع إلىه مئات المرات... ورؤيته مرة واحدة أفضل من مائة مرة سمعت عنه

يقول مصطفى صادق الرافعي: لا تتم فائدة الانتقال من بلد إلى بلد إلا إذا انتقلت النفس من شعور إلى شعور؛ فإذا سافر معك الهم فأنت مقيم لم تبرح..

 

ويقول المثل التشيكي: رفقة جيدة على طريق هو أقصر الطرق.

ويقول المثل الإيطالي: الذي لم يسافر مع الرجل لا يعرف قيمة الرجل.

ويقول المثل المغاربي: في الرحلة الطويلة حتى القشة تزن ثقيلة.

ويقول المثل الألماني: أثقل الأمتعة للمسافر هو محفظة فارغة.

ويقول المثل الياباني: إذا كنت تحب ابنك دعه يسافر.

 

ولا شك في أن للسفر أهمية يعكسها الواقع الذي يثبت أن السفر كان دائما مسلكا للعلماء في طلبه أو في تقديمه، والتاريخ يثبت أن السفر شكل محطات جوهرية ومصيرية في حياة العلماء وفي مسار فكرهم، من "كونفشيوس" و"منشيوس" و"لاوزو" إلى "سقراط" و"أفلاطون" و"أرسطو"، فهؤلاء نماذج من فلاسفة سافروا وأبدعوا فتركوا الأثر وكان لسفرهم الثمار التي جنوها هم وجناها من رحلوا إليه أو رحلوا عنه.

 

وكثيراً ما كان السفر حلاً لمسائل فكرية غيرت مسار حياة الفيلسوف. مثل الذي حدث مع" أبي حامد الغزالي" حيث شكل سفره حلا لمعضلته الشكية كما أن الترحال أنتج أدبا غزيرا وشخصيات اقترن أسمها بالتجوال والأسفار سواء في التراث الإسلامي أو في غيره، وسواء في الماضي أو الحاضر، وعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر ابن سينا وتجواله في بلاد ما وراء النهر، صاعد بن أحمد الأندلسي، ابن بطوطة، ياقوت الحموي، المهدي بن تومرت، ابن خلدون، ابن تيمية، ومحيي الدين بن عربي، حتى إنه يمكننا القول: إن جلّ العلماء - إن لم نقل كلهم - سافروا لأجل العلم سواء في طلبه أو في تقديمه أو في الحفاظ عليه وصونه.

 

كما كانت الأسفار للكثير منهم فرصا ومجالات للإبداع في مختلف العلوم والفنون، ناهيك عن سفر كتبهم وأفكارهم بالإضافة إلى سفرهم جسديا.

 

وتنسحب هذه الملاحظات على الفكر الإنساني عموما، شرقه وغربه.

وفي هذا الشأن تطول القائمة لذكر العلماء المسافرين أو الآثار الإيجابية في سفر العلماء من فلاسفة وأدباء وشعراء و مؤرخين وفي كل فن من الفنون، من هيرودوت(حوالي 424- 420ق م) إلى "مونتان"(1533-1592) ثم "بيرسي شيلي" (1792-1822) وتطول القائمة لذكرهم جميعا.

 

تجربتي مع السفر:

 

كدارس للفلسفة والفكر الإنساني وتاريخ الحضارات، فرض على السفر ولو في ثنايا الكتب الدراسية التي تعلمنا فيها بدايات الفكر والتفلسف من أثينا وأسبرطة في اليونان .. إلى أشور وبابل في العراق، ومنف والأقصر في مصر القديمة .. وبلاد فارس وحكيمها زرادشت، وبوذا في الهند وكنفوشيس في الصين.

لقد تعلمت حب الفلسفة والحكمة من هؤلاء وتعلمت التسامح والانفتاح على الآخر وأن الخلاف مهما كان نوعه لا يفسد للود قضية .. كما تعلمت من ديننا الحنيف أن الحكمة ضالة المؤمن.. فأنّى وجدها فهو أحق بها ..

 

أوَ لم يقل الرسول الكريم: "اطلب العلم ولو في الصين"

والمسافر في طلب العلم هو في سبيل الله حتى يعود. لقد اختلط في فكري ومنذ صغري حب الحكمة والسعي لها بحب معرفة بلاد الله الواسعة.. فكانت الجغرافيا ومعرفة العواصم والعملات وجمع الطوابع البريدية من هواياتي، وكنت أحلم بزيارة تلك البلدان التي طالما درست تاريخها وفلسفتها وحكمة حكمائها، ولكن الظروف المادية لم تكن تسمح بذلك في بدايات حياتى العملية .. حيث فرض عليّ تحمل مسئوليات .. بل واجبات لا يوجد معها مكان للرحلات أو السفر .. ولكن يشاء الله أن يتبدل الحال وأعمل بوظيفة بالرغم من بعدها الشاسع عن مجال تخصصي.. إلا أنها أتاحت لي السفر في مهام عمل رسمية إلى بلاد كثيرة؛ لأطلع على حضارات وثقافات وعادات وتقاليد شعوب وأمم قرأت عنها كثيرا ..

 

ولكن السمع ليس كالمشاهدة.

وبالرغم من أن رحلاتى كانت في أغلبها رحلات عمل فقد كنت حريصاً كل الحرص على إنجاز مهمة العمل أولاً، ولكن في نفس الوقت الاستفادة قدر الامكان وبما يسمح به الوقت لإشباع رغبتي في المعرفة ومعايشة ثقافة البلد الذي أزوره والتعرف على حضارته بما تسمح به الظروف، ولذا أستطيع القول بأن كافة رحلات العمل التي قمت بها كانت أيضاً رحلات علم ومعرفه، حيث أننى اتبعت استراتيجية معينة في كل رحلاتي للاستفادة منها إلى أقصى درجة من خلال: التخطيط الجيد للرحلة وتحديد أهداف العمل التي يجب إنجازها معرفة مبدئية بالبلد والمدن التي سأزورها: تاريخه موقعه، احوال الطقس، أهم المعالم الحضارية، وأية معلومات أخرى مفيدة، كنت دائماً أحاول التنقل بين المدن بالسيارات أو القطارات مهما بعدت المسافات، لأن لدي قناعة بأن زيارة المدن فقط لا تفيد ولا تعكس ثقافة أي شعب، وجميع المدن فى العالم تتشابه في كل شيء، ولكن الإحساس بالثقافة وحضارة أي بلد وجماله وعادات شعبه وتقاليده لا يمكن مشاهدتها والاحساس بها إلا في المناطق التي لم يشوهها زحف المدنية.

 

كنت أحاول قدر الإمكان توثيق تلك الزيارات بأخذ الصور التذكارية، ولكنني اعترف بأننى لست محترفاً في فن التصوير، يضاف إلى ذلك أننى كنت أصور وأنا على عجلة من أمري، ولذا فإن كثيراً من الصور لم تكن تعكس جمال المكان على حقيقته. وبالرغم من محاولاتي التوثيق إلا أنني فقدت كثيراً من الصور لأماكن جميلة لأسباب مختلفة إما لضياع الكاميرا أو فقدان الصور من جهاز الكمبيوتر، ولذا استعنت ببعض الصور لأماكن زرتها وهي ليست من تصويري لأبقي ذاكرتي حيةً، وحتى لا أفقد الإحساس بذكرياتي الجميلة عن الأماكن التي زرتها. إن فكرة نشر هذه الرحلات ليست ترفاً أو محاولةً للتفاخر واستعراض العضلات، فخلف هذه الرحلات وبجانبها كانت هناك تجارب إنسانية ومواقف ومشاهدات وعبر تستحق أن تحكى، وهذا جهد كبير سأحاول القيام به مع الوقت لأعبر عن إحساسي تجاه الأماكن التي زرتها متمنياً أن يضيف هذا الجزء من الموقع أبعاد معرفيه وإنسانية تترى المعرفة والقيم الجميلة.