22
13

الاستشراق: غزو فكري استعماري لتدمير الحضارة الإسلامية

تاريخ النشر : 23 2015 - 11.05:28 ص

الاستشراق: غزو فكري استعماري لتدمير الحضارة الإسلامية

الاستشراق والتبشير وجهان لعملة واحدة

لوقف انتشار الإسلام وحجب حقائقه ([1])

1

لجأ العالم الغربي إلى الاستعمار الخفي غير المباشر لغزو العالم الإسلامي، وذلك بعد فشل وسائله التقليدية في استخدام الغزو العسكري للسيطرة على الشعوب الإسلامية. وقد وجد الاستعمار في المستشرقين وسيلته القوية للسيطرة على المسلمين عن طريق دينهم وثقافتهم وأفكارهم. وقد عملوا على تحقيق هذه الأهداف بدراسة علوم اللغة العربية والإسلامية لمعرفة اتجاهات المسلمين في مختلف الحياة.

ونظراً لأن ظهور حركة الاستشراق له صلة وثيقة بما يحدث اليوم من غزو فكري وتبشيري لكل المسلمين في مختلف أرجاء المعمورة؛ فينبغي أن نتعرف على حركة الاستشراق وأصولها التاريخية الأولى وما هي العوامل التي أدت إلى ظهورها وتأثيرها على المسلمين سلباً وإيجاباً.

 

الاستشراق: نشأته وأهدافه:

الاستشراق هو اتجاه الغربيين لدراسة العلوم الإسلامية واللغة العربية بالدراسة والبحث، أو هو الدراسات الغربية المتعلقة بالعالم الإسلامي في لغاته وآدابه وتاريخه وعقائده وحضارته بوجه عام. والمستشرق هو العالِمُ الذي تمكن من هذه الدراسات وقام بوضع مؤلفات أو بحوث أو قام بتحقيق بعض الكتب والمخطوطات التي تتعلق بالعالم الإسلامي.

ولو حاولنا أن نتعرف على البدايات الأولى لظهور الاستشراق وبداية اهتمام الغرب بالشرق الإسلامي، فإننا سنجد أن الانتشار السريع للإسلام في المشرق والمغرب، قد لفت بقوة أنظارَ الغربيين بوجه عام ورجال اللاهوت بوجه خاص لهذا الدين الجديد. ومن هنا بدأ اهتمام رجال اللاهوت بالإسلام ودراسته، ليس من أجل اعتناقه ولكن من أجل حماية اخوانهم المسيحيين من خطر انتشاره بينهم.

وقد كان لازدهار الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى - وخاصة في الأندلس - ووقوف كثير من الأوروبيين للدراسة فيها، واختلاطهم بالمسلمين في أماكن كثيرة أثر في زيادة الاهتمام الأوروبي بالإسلام. ولكن ظهور حركة الاستشراق بأهدافها ونشاطها يرجع إلى الحروب الصليبية التي لم تحقق للذين قاموا بها أهدافهم، فرأى هؤلاء بعد أن فشل الغزو العسكري في تحقيق أهدافهم أن يلجؤوا إلى الغزو الفكري، لعلهم يستطيعون عن طريقه أن ينالوا من المسلمين ومن ثقافتهم وفكرهم ودينهم. وقد عبر كثير من الكتاب الأوروبيين عن دور الحروب الصليبية في نشأة الاستشراق فيقول أمرتون: "إن حياة أوروبا اغتنت خلال الحروب الصليبية؛ لأنها اقتبست من حياة المسلمين ألوانا من الفكر والثقافة، مما جعل أفق الأوروبيين يتسع؛ بسبب ارتباطهم طيلة عدة سنين ببلاد الشرق ذات الإلهام والأساطير، وكان ذلك دافعاً للكثيرين من الغربيين ليواصلوا صلتهم بالشرق عن طريق العلم والمعرفة حتى أصبحوا مستشرقين"

ويقول أومان: "إن الحروب الصليبية وضعت نواة الاستشراق؛ إذ اتجه الرهبان لدراسة اللغة العربية والفكر الإسلامي لمعرفة اتجاهات المسلمين في مختلف الشؤون، وقد أسست كلية للرهبان في ميراما لدراسة اللغة والعلوم الإسلامية، كما أنشئت الكراسي للغات الشرقية في باريس ولوفان"

 

طريق للسيطرة:

وهكذا يتضح لنا كيف أن الغرب لجأ إلى الاستشراق ودراسة الحضارة الإسلامية بشتى جوانبها كطريق آخر للسيطرة على العالم الإسلامي، بعد فشلهم في السيطرة عليه عن طريق الغزو العسكري. ولهذا يمكن القول بأن تاريخ الاستشراق في مراحله الأولى هو تاريخ للصراع بين العالم النصراني الغربي في القرون الوسطى والشرق الإسلامي على الصعيدين الديني والأيديولوجي. فقد كان الإسلام كما يقول سادرن: "يمثل مشكلة بعيدة المدى بالنسبة للعالم النصراني في أوروبا على المستويات كافة"

فإذا كانت الحروب الصليبية تمثل الخلفية الدينية للصراع الحضاري بين العالم الإسلامي والعالم الغربي فإن الاستشراق يمثل الخلفية الفكرية لهذا الصراع. فالاستشراق يشكل الجذور الحقيقية التي كانت ولا تزال تقدم المدد والعون للمبشرين والمستعمرين في غزوهم للعالم الإسلامي يستقون منه معلوماتهم عن العالم الإسلامي عقيدته وتاريخه وفكره وعاداته وتقاليده وجغرافيته ونظم الحكم فيه. ويكفي أن نعرف أيضاً أن الأوروبيين وكثير من الشرقيين لا يزالون يستقون معلوماتهم عن الإسلام والحضارة الإسلامية من خلال كتابات المستشرقين أو من أثر المستشرقين عليهم. فقد كان للاستشراق أكبر الأثر في صياغة التصورات الأوروبية عن الإسلام والحضارة الإسلامية على مدى قرون طويلة.

 

دراسة القرآن:

قام المستشرقون بدراسة القرآن والسنة النبوية والسيرة النبوية وكتب التراث الإسلامي دراسة وافية، وأخذوا يثيرون مشكلات وقضايا وشبهات حول الإسلام والقرآن الكريم والرسول - صلى الله عليه وسلم - والفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية. كما قاموا بتشويه التاريخ والفكر الإسلامي ودسوا فيه كثيراً من الأباطيل الزائفة. وقاموا بإنشاء أقسام للدراسات الشرقية في الجامعات الأوروبية حيث قاموا من خلالها بإثارة هذه القضايا وتلقينها للدراسين في هذه الجامعات سواء من الأوروبيين أو المسلمين. وفي بداية نهوض العالم الإسلامي وفد كثير من الدارسين المسلمين الى هذه الجامعات والمعاهد لنيل الشهادات العالمية، وذلك لتوفر الإمكانات العلمية اللازمة للدراسة والبحث في هذه الجامعات والمعاهد، وخاصة المخطوطات وكتب التراث النادرة التي قام المستشرقون بجمعها بعد حصولهم عليها من العالم الإسلامي.

وقد شجع الغرب الدارسين المسلمين للدراسة في هذه الجامعات على أيدي المستشرقين لكي يخلقوا جيلاً من أبناء المسلمين المتشككين في دينهم وحضارتهم وتاريخهم، والمفتونين بالفكر والحضارة الغربية لكي يقوم هؤلاء بترويج أفكار وآراء المستشرقين عن الإسلام والحضارة الإسلامية من خلال توليهم كثيراً من المناصب العلمية بالتدريس الجامعي أو العمل في أجهزة الاعلام المختلفة.

وفعلاً... استطاع الغرب أن يخلق هذا الجيل من أبناء المسلمين المتشككين في دينهم وحضارتهم والذين كانوا بمثابة أبواق تردد آراء المستشرقين وشبهاتهم عن الإسلام والحضارة الإسلامية، هذا بالإضافة إلى إعجابهم الشديد بالحضارة الغربية في شتى جوانبها، والدعوة إلى تقليد الغرب في كل شيء إذا أردنا أن ننهض ونساير العصر، ودعا الآخرون إلى استبدال الحروف العربية بأحرف لاتينية.

وللأسف فإن كثيراً من هؤلاء تولوا مناصب قيادية في عالمنا الإسلامي ولا يزالون، فلعبوا دوراً كبيراً وخطيراً في تشكيل الفكر الإسلامي كما يريد الغرب ويشتهي، فكان خطرهم أعظم وأشد من خطر المستشرقين على العالم الإسلامي؛ لأن المسلم عندما يقرأ لأجنبي فإنه يأخذ حذره منه ويتفحص آراءه بدقه، بعكس ما يفعله مع المسلم؛ لأنه يأخذ كل ما يقوله بحسن نية.

ومن الشبهات والقضايا التي أثارها المستشرقون حول الإسلام والحضارة الإسلامية:

  1. قولهم: إن القرآن من تأليف سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وليس من عند الله.
  2. قولهم: إن ضعف المسلمين سببه العقائد الإسلامية كالقضاء والقدر والتوكل.
  3. ادعائهم أن الإسلام انتشر بالقوة وبحد السيف.
  4. قولهم: إن الإسلام دمّر نظام الأسرة بواسطة الطلاق، وتعدد الزوجات.
  5. قيامهم بالتشكيك في صحة الحديث النبوي، وترويجهم لبعض الأحاديث الضعيفة التي تخدم مخططاتهم.
  6. قيامهم بخلق بعض الفرق التي تعادي الإسلام، والترويج لها كالبهائية والقاديانية.
  7. محاولتهم التقليل من شأن الحضارة الإٍسلامية وإسهامها في الحضارة الإنسانية، وسخريتهم من العقلية العربية، والقول بأن المسلمين لم يكونوا إلا نَقَلَةً للحضارة اليونانية والرومانية وليس لهم أي إبداع يذكر؛ لأن الخلق والإبداع ليس من طبيعة المسلمين.
  8. تشويههم للتاريخ الإسلامي، والتركيز على الخلافات الإسلامية ونشرها، وكأن التاريخ الإسلامي ما هو إلا تاريخ للخلافات والفتن، مع إهمالهم ذكر الجوانب المضيئة من التاريخ الإسلامي.
  9. إضعاف روح الإخاء الإسلامي، وذلك عن طريق إحياء القوميات القديمة والدعوة إليها، وإثارتهم النعرات الطائفية، وإقامتهم الحواجز المصطنعة بين البلاد الإسلامية.
  10. قولهم: إن الإسلام يعارض العلم ولا يدعو إليه، ويحد من النظر العقلي والبحث الحر.
  11. التشكيك في قدرة اللغة العربية على مسايرة التقدم العلمي، لتظلّ الأمة الإسلامية عالة على المصطلحات الغربية.
  12. التشكيك في قيمة الفقه الإسلامي، والقول إنه منحول من الفقه الروماني.

 

هذا بالإضافة إلى شبهات وقضايا أخرى كثيرة أثارها المستشرقون حول الإٍسلام والحضارة الإسلامية ويجب أن نوضح أن كل هذه الشبهات والقضايا وغيرها والتي أثارها المستشرقون حول الإسلام والحضارة الإسلامية، قد قام بالرد عليها علماء ومفكرون مسلمون أجلاّء، وبينو تفاهتها وبطلانها وزيفها وزيف مروجيها وسوء نيتهم، بما يضمرون من حقد للأمة الإسلامية فردوا عليها بالحجة بأسلوب علمي.


أثر الاستشراق على العالم الإسلامي:

بالرغم من أن لكتابات المستشرقين ومؤلفاتهم عن الإسلام والحضارة الإسلامية أثراً سلبياً كبيراً على العالم الإسلامي، إلا أن الجانب الإيجابي للاستشراق يتمثل في صورة الهجوم علينا وعلى أمجادنا وليس في صورة المدح؛ لأن جانب المدح والثناء قد يكون له أثر تخديري علينا، فيجعلنا نغمض عيوننا مستسلمين لتلك الأحلام السعيدة التي تذكرنا بالذي كان، ونركن إلى ذلك ونعيش على صيت آبائنا وأجدادنا، ونظن أننا عظماء؛ لأن أجدادنا عظماء. فجانب الهجوم على الإسلام والحضارة الإسلامية هو الذي دفع كثيراً من الكتاب المسلمين للرد على القضايا والشبهات التي أثارها المستشرقون حول الإسلام رداً علمياً ساهم إلى حد كبير في تصحيح كثير من المفاهيم الخاطئة لدى المسلمين لمسائل القضاء والقدر، والتوكل على الله، وحقوق المرأة، وغيرها من القضايا التي أدى الفهم الخاطئ لحالة التدهور والانحطاط التي عاشها العالم الإسلامي.

بالإضافة إلى أن جانب الهجوم هذا أدى إلى ظهور كتابات إسلامية تتحدث عن الإسلام كنظام متكامل للحياة الإنسانية في جوانبها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، مع وضع حلول لكثير من المشكلات التي واجهت الإنسانية في هذا العصر، وظهرت أيضاً كتابات إسلامية بينت إسهامات العلماء المسلمين في شتى ميادين العلوم والمعرفة، وبينت فضل الحضارة الإسلامية على الحضارة الغربية من خلال تحقيق وجمع كثير من الكتب والمخطوطات ونشرها، والتي توضح سبق علماء المسلمين وإبداعهم في مجالات كثيرة مما ساعد في إعادة الثقة لكثير من المسلمين في دينهم وحضارتهم المفترى عليها.

ونشاط المستشرقين لم يقتصر على جانب إثارة الشبهات والقضايا المعادية للإسلام والحضارة الإسلامية، بل إن لهم جهوداً كبيرة تستحق منا الثناء والإعجاب، وذلك لقيامهم بجمع كثير من الكتب والمخطوطات العربية والإسلامية النادرة وحفظها وفهرستها بدقة، مما أدى إلى عدم  ضياع هذه الكتب الإسلامية النادرة والتي كانت مهملة في مكتبات العالم الإسلامي، فجهودهم تلك تستحق كل تقدير منا لهم بغض النظر عن هدفهم من وراء ذلك.

كما قام المستشرقون بترجمة بعض كتب التراث الإسلامي إلى اللغات الأوروبية الحية، وقاموا بنشرها، هذا بالإضافة إلى أن لهم عدداً كبيراً من المجلات والدوريات التي تنشر بحوثاً عن العالم الإسلامي يزيد عددها عن ثلاثمائة مجلة ودورية. والمستشرقون يقومون أيضاً بعقد المؤتمرات الدولية بصورة منتظمة يعرضون فيها بحوثهم ودراساتهم عن العالم الإسلامي، وقد بلغ عددها حتى الآن أكثر من ثلاثين مؤتمراً، هذا بالإضافة إلى المؤتمرات والندوات الإقليمية.

ولو حاولنا أن نحدد أهداف الاستشراق ودوافعه فإننا نستطيع أن نقول أن الهدف الديني كان هو السبب الأول في نشأة الاستشراق وازدهاره، ففي البدايات الأولى كان من الصعب الفصل بين الاستشراق والتبشير الديني؛ لأنهما كانا مرتبطين باللاهوت المسيحي. ومع بداية عصر الاستعمار وتوجه أنظار الغربيين للسيطرة على العالم الإسلامي ظهرت أهداف أخرى للاستشراق مثل الأهداف الاقتصادية والتجارية والسياسية. والهدف الديني للاستشراق يتمثل في محاربة الإسلام وتشويهه لتشكيك المسلمين بدينهم، بالإضافة إلى حماية المسيحيين من خطر انتشاره بينهم، وذلك عن طريق حجب حقائقه عنهم واطلاعهم على ما فيه من نقائض مزعومة.

أما الهدف التجاري للاستشراق فيتمثل في ازدياد أطماع الغربيين ورغبتهم في توسيع تجارتهم، والسيطرة على موارد العالم الإسلامي الغنية واللازمة لصناعاتهم، ولهذا وجدوا الحاجة ماسة لمعرفة البلاد الإسلامية وعاداتها وتقاليدها وجغرافيتها وتركيبتها السكانية، وغير ذلك من الأمور، حتى يتسنى لهم استغلالها بسهولة.

أما الهدف السياسي للاستشراق، فقد أوضحنا أن الحروب الصليبية وفشلها في السيطرة على العالم الإسلامي عن طريق الغزو العسكري كان له أكبر الأثر في نشأة الاستشراق وازدهاره، فقد أدرك الغرب أن الغزو العسكري لبلاد المسلمين بدون معرفة كاملة بالدين الإسلامي وعادات وتقاليد ولغات الشرق المسلم، لا بد مخفق؛ لأنه سيكون مفتقراً للدراسة الواعية التي يمكن أن تساعده في دوام السيطرة حتى بعد زوال السيطرة العسكرية.

ومع بداية السيطرة على البلاد الإسلامية اضطرت الدولة الاستعمارية لتعليم موظفيها في المستعمرات لغات البلاد الإسلامية وجزءاً من آدابها ودينها وعاداتها وتقاليدها؛ حتى يستطيعوا سياسة هذه المستعمرات وحكمها. وقد أفاد الاستعمار كثيراً من التراث الاستشراقي وما كتبه المستشرقون عن العالم الإسلامي، وكان لزيادة التوسع الاستعماري في البلاد الإسلامية أثرٌ كبير في زيادة مؤسسات الاستشراق ونشاطه بدعم ومساعدة من الدول الاستعمارية.

وقد كان التعاون بين الاستعمار والاستشراق وثيقاً حيث استطاع الاستعمار أن يجند كثيراً من المستشرقين لخدمة أغراضه وأهدافه في البلاد الإسلامية، فكان المستشرقون يمدون الاستعمار بالدراسات والبحوث التي تيسر له حكم البلاد الإسلامية واستغلالها، فمثلاً... قام المستشرق كارل هيزيسن بيكر - مؤسس مجلة الإسلام الألمانية - بدراسات تخدم الأهداف الاستعمارية الألمانية في أفريقيا، ودعا إلى استخدام الإسلام في أفريقيا والهند كدروع سياسية في وجه البريطانيين، أما عالم الإسلاميات الهولندي (سندك هورجروفيه) فإنه في سبيل استعداده للعمل في خدمة الاستعمار توجه إلى مكة في عام 1885 بعد أن انتحل اسما إسلامياً هو (عبد الغفار) وأقام هناك ما يقرب من نصف عام، وقد لعب هذا المستشرق دوراً مهماً في تشكيل السياسة الثقافية الاستعمارية في المناطق الهولندية في الهند الشرقية، وشغل مناصب قيادية في السلطة الاستعمارية الهولندية في أندونيسيا.

وفي فرنسا كان هناك عدد من المستشرقين يعملون كمستشارين لوزارة المستعمرات الفرنسية عن شؤون شمال أفريقيا، حيث كانوا يستشارون في المسائل المتعلقة بالشرق الإسلامي من قبل وزير الخارجية ووزير الحربية.

أما في بريطانيا فقد دعا اللورد كيرزن لإنشاء مدرسة للدراسات الشرقية باعتبار أنها تعد جزءاً من تأثيث الامبراطورية، وتساعد على الاحتفاظ بالموقع الذي نالته بريطانيا في الشرق. وقد كانت الحكومة البريطانية من أجل تحقيق أهدافها الاستعمارية ترسم سياستها في مستعمراتها في الشرق بعد التنسيق والتشاور مع فريق من المستشرقين الذين يقدمون لها الدراسات المطلوبة، وهكذا اتجه الاستشراق المتعاون مع الاستعمار - بعد الاستيلاء العسكري والسياسي على بلاد المسلمين - إلى إضعاف المقاومة الروحية والمعنوية في نفوس المسلمين عن طريق تشكيك المسلمين في معتقداتهم وتراثهم والقيام بالترويج للحضارة والثقافة الغربية بين ربوع المسلمين، حتى يتم إخضاعهم في النهاية إخضاعا تاماً للثقافة والفكر الغربي.

وإذا كان كثير من المستشرقين قد ارتضوا لأنفسهم بأن يكون عملهم وسيلة للاستيلاء على بلاد المسلمين وتسخيرها لخدمة الأهداف الاستعمارية، فإن بعض المستشرقين المنصفين يشعرون بالخجل والمرارة إزاء هذه الأعمال، وفي ذلك يقول المستشرق الغربي المعاصر استيفان فيلد: "والأقبح من ذلك أنه توجد جماعة يسمون أنفسهم مستشرقين سخروا معلوماتهم عن الإسلام وتاريخه في سبيل مكافحة الإسلام والمسلمين، هذا واقع مؤلم لا بد أن يعترف به المستشرقون المنصفون المخلصون لرسالتهم بكل صراحة".

ومن الإنصاف القول إنه إذا كان كثير من المستشرقين قد درسوا الإسلام والحضارة الإسلامية لأهداف دينية وتجارية وسياسية، إلا أن هناك نفرٌ قليل من المستشرقين الذين كانت دراساتهم عن الإسلام والحضارة الإسلامية منصفة وموضوعية، فبينوا الجوانب المشرقة فيها وبينوا أثرها على الحضارة الغربية بوجه خاص والحضارة العالمية بوجه عام، أمثال جوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب، وغيره من المستشرقين الذين اهتموا بالإسلام إلى الدرجة التي أدت إلى إسلام كثير منهم.

وقد ساعد على وجود هذا النفر القليل من المستشرقين زوال أثار التعصب الديني في بداية العصر الحديث، وأيضاً ما مرت به أوروبا بما يعرف بعصر التنوير الذي أوجد نفراً من الباحثين الذين كانت بحوثهم  عن العالم الإسلامي تتسم بالموضوعية والنزاهة العلمية، ولم يكن لهم غرض سوى البحث عن الحقيقة. ولكن إذا صدق القول على بعض المستشرقين المسيحيين فإنه لا يصدق أبداً على أي من المستشرقين اليهود الذين دخلوا مجال الاستشراق بهدف النيل من الإسلام والحضارة الإسلامية، فكانت بحوثهم ومؤلفاتهم مليئة بالحقد والدس والكيد للإسلام.

وليس من قبيل المصادفة أن نجد أن أكبر المستشرقين منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، هو اليهودي جولدر زبهر والذي كرس حياته للطعن في الإسلام ونبي الإسلام وقرآن الإسلام، بأسلوب تتبعث منه أحقاد اليهود ومكرهم وخبثهم.

وفي جولة قام بها الأستاذ مصطفى السباعي في جامعات أوروبا التقى خلالها مع كثير من المستشرقين استخلص النتائج الآتية:

  1. أن المستشرقين لا يخلوا أحدهم من أن يكون قسيساً أو استعمارياً أو يهودياً، وقد يشذ عن ذلك أفراد قليلون.
  2. أن الاستشراق في الدول الغربية غير الاستعمارية كالدول الاسكندنافية أضعف منه عند الدول الاستعمارية.
  3. أن الاستشراق بصورة عامة ينبعث من الكنيسة، وفي الدول الاستعمارية يسير مع الكنيسة ووزارة الخارجية جنباً إلى جنب ويلقى منها كل تأييد.
  4. أن الدول الاستعمارية - كبريطانيا وفرنسا - ما تزال حريصة على توجيه الاستشراق وجهته التقليدية من كونه أداة هدم للإسلام وتشويه السمعة للمسلمين.

والمستشرقون بالإضافة إلى أعمالهم السابقة فإنهم سلكوا كل طريق ظنوا أنه محقق لأهدافهم فقد استطاعوا أن يتسللوا إلى المجمع اللغوي بمصر، والمجمع العلمي بدمشق، والمجمع العلمي ببغداد، كما أنهم قاموا بالتدريس في بعض الجامعات في البلاد الإسلامية.

فقد كان المستشرق الإنجليزي جيب عضواً بالمجمع اللغوي بمصر، بالإضافة إلى اشتراكه في تحرير دائرة المعارف الإسلامية، والمستشرق الفرنسي ماسيون كان عضواً بالمجمع اللغوي المصري، والمجمع العلمي العربي بدمشق. والمستشرق جنيبرت الإنجليزي كان عضواً بالمجمع اللغوي بمصر، والمجمع العلمي العربي بدمشق، بالإضافة إلى اشتراكه في تحرير دائرة المعارف الإسلامية، والمستشرق نيكلسون كان عضواً بالمجمع اللغوي المصري، وهو أيضاً من محرري دائرة المعارف الإسلامية.

وهكذا فإن المستشرقين يلجؤون إلى كل طريق لتحقيق أهدافهم، وليس معنى ذلك أن هذه هي آخر وسائلهم وطرقهم، بل إنهم كل يوم يبتكرون وسائل جديدة سواء بإلقاء المحاضرات والاشتراك في مؤتمرات الحوار بين الأديان، أو بوضع كتب ومؤلفات تتحدث عن الإسلام والحضارة الإسلامية ويكون ظاهرها المدح والثناء وباطنها الدس والتشكيك، بطرق ملتوية تجعل المرء يحتار في أمرها والمقصود منها. وربما وصل الأمر إلى اعتناق الإسلام ظاهرياً حتى يتسنى له أن يقول ما يريد من غير أن يتعرض للنقد من علماء المسلمين.

 

[1] جريدة الوحدة الاماراتية 21/11/ 1987 – 31/12/1987