22
13

التنظيمات العنقودية / خالص جلبي

تاريخ النشر : 18 2015 - 17.18:23 م

قلم | خالص جلبي

مع نهاية شهر رمضان لعام 1436هـ، أعلنت المملكة كشفها تنظيمات إرهابية، وصفتها بالعنقودية. معلوماتي عن التنظيمات السرية أنها خيطية، وهرمية، كما كتبت في كتابي «النقد الذاتي ـ ضرورة النقد الذاتي للحركات الإسلامية» طُبع ونشر في عام 1982م، أما العنقودية فهي جديدة عليَّ، وربما هي لون متطور من التنظيمات الهرمية، التي يسهل اختراقها من رجال الأمن. كما أعلنت السلطات القبض على أكثر من 400 عنصر مشتبه فيهم من ثماني جنسيات على الأقل في طريقهم لتنفيذ تفجيرات في البلد، كما أنهم كانوا خلف الأحداث التي جرت في المنطقة الشرقية بتفجير مسجد القديح، وقتل المصلين الخشع الراكعين. وبالطبع يوجد فيما بينهم شبان سعوديون متورطون.
لست ممّن يكتبون في السياسة، بل أحب أن أكتب في الفكر، والفلسفة، لقناعتي العميقة بأن مَنْ يكتب في السياسة يجب أن ينتبه إلى كلماته المحصيّة جيداً، ولكونه يجب أن يكتب ما يُرضي أجهزة الأمن غالباً، فضلاً عن الاحتياط البالغ في تقديم التحليلات، والتفسيرات، أما عن النصائح فهي في سلة المهملات، لن يأخذها أحد بعين الاعتبار حتى «يوم الزلزلة»، ولربما قال بعض العقلاء: نعم كانت الكلمات مُنذرة، «موقظة»، ولكن فاتنا الانتباه إليها.
أقول هذا لأنني بين عامي 1993 و1997 ربما، كتبت 235 مقالة في صحيفة الرياض، وهي مقالات موسعة جداً، أشبه بأوراق البحث العلمي، بعضها تجاوز 4000 كلمة في صفحة حروف، وأفكار، كلها في تأسيس مفهوم السلام الاجتماعي. لا أظن أن أحداً انتبه إلى كلماتي، فضلاً عن نصائحي. لماذا أذكِّر بتلك المقالات الدسمة الموسعة؟ لأنه لم يكن حينها قد ألقي القبض على أحد بتهمة الإرهاب، ولم تُطلق بعد طلقة في المملكة، ولم يُفجّر مسجد، ويُقتل مصلٍّ. وفي المثل العربي درهم وقاية خير من قنطار علاج. ولكن هذا الأمر ينطبق على الحكيم، وليس الأعمى، الذي يصطدم بالحائط، فينتبه إلى العائق. أكرر: إن علاج هذه المصائب لا يكون بحبة أسبرين «أمنية» لإزالة سرطان دماغي، بل بالعلاج السببي لتفشي مثل هذه الأمراض الذهنية.
تحدثت عن ذلك في تلك المقالات بأعداد وصلت إلى العشرات، ولو انتبه إليها المسؤولون، وطبعوها في كتاب، ثم وزعوا منها ملايين النسخ على الشباب، لحقنوا دماء آلاف الناس! ولربما أثرت في تربيتهم، وكيفية فهمهم الأحداث، ولكن هيهات هيهات لما توعدون. تحدثت عن مفهوم اللا عنف، وتحته مفهوم القتال المسلح، وتفريقه عن عموم مفهوم الجهاد، باستفاضة، ما دفع هشام علي حافظ، رحمه الله، لأن يمنحني جائزة أفضل مقالة كُتبت في العالم العربي، وتم تكريمي يومها في بيروت في حفل بهيج. سألته يومها ما هي المقالة التي قررت بموجبها منحي هذه الجائزة؟ فقال: مقالة صراع ولدَي آدم. ثم تابع: لقد اكتشفتك متأخراً، وكنت تستحق جائزة المفكر العام. قلت له: اعتبر كلماتك هذه وصلت، ثم كان لنا لقاءات أخرى، آخرها مشروع وضع تفسير عصري جديد، وبناء حركة أوروبية للا عنف «حركة اللا عنف الأوروبية الإسلامية (ENOVIM) وقاية للمهاجرين في بلاد الجرمان والطليان وكندا والأمريكان».
أذكر يومها في شتاء عام 1997م، حين ذهبت عابراً ثلوج لبنان إلى الحفل، حيث تحدثت في كلمة ألقيتها عن مفهوم اللا عنف، فلم ينتبه إليها أحد، ولكن الأخ المصري سليم العوا، حين تحدث عن «المقاومة» في لبنان صفق له القوم بحماس.
يومها أتذكر أنني قلت له: نحن نريد سلاماً يسود بين العرب، أما الصراع العربي الصهيوني فهو أمر جانبي، نعم هذه هي فلسفتي. البارحة كان القتل في كل زاوية من العالم العربي، العراق، وتنظيم الدولة، وبشار البراميلي، والحوثيون بقصفهم عدن!
400 عنصر في المملكة يخططون لتفجير البلد ليسوا ـ أحبائي مَنْ تقرأون كلماتي ـ سوى رأس جبل الجليد. أعرف تماماً أن كلماتي قد يقرأها بعض ممّن يملكون القرار، أو هم قريبون منه. أذكر جيداً كتاب «المملكة من الداخل»، وكيف بدأت الخطوات الأولى لتحديث الذهنية عند الشباب حين فوجئ القوم بانفجار الأوضاع، فتم اقتحام الكعبة مع مطلع القرن الرابع عشر الهجري، كان ذلك مع إعلان أحدهم أنه المهدي المنتظر.
بالمناسبة هذه الظاهرة يؤمن بها أقوام، وطوائف لا حصر لهم، حول قرب قدوم «المخلِّص» بشكل أو بآخر. يقول الكاتب إن المملكة بعدها كثفت المناهج الدينية في المدارس، وهذا في جانب منه جيد، على أن يأتي في القناة المدروسة بإحكام، ومعنى هذا الكلام، وتطبيقه الواقعي أن البرامج الدينية قد تُخرج على نحو غير واعٍ مشروع «داعش» دون أن يُسمّى. اليوم «داعش»، وغداً «ماعش» و«فاحش». الحقائق أهم من الأسماء، والشعارات.وحالياً، يؤسس الفكر التقليدي في الجامع، والجامعة روح التطرف بشكل أو بآخر، وهنا نأتي إلى النقطة الخطيرة وهي أن ما يحدث من جنون الاقتتال في الشرق الأوسط خلفه عقلية خاصة مبرمجة، يجب العمل عليها كي تدخل روح العصر، ودنيا السلام، بمعنى التقعيد، والتأسيس الفلسفي للطلبة في مدى العشرين سنة المقبلة، فتدخل مواد جديدة في برامج تدريس الطلبة، وتُجفَّف البرامج الدينية، كما يتم طباعة نسخ حول ثقافة السلم والعلم بالملايين، وتوزع على كل مكتبة، ومؤسسات رحلات الطيران. وهذا هو المدخل لتغيير البنية الذهنية، لأن الثقافة الحالية مازالت تعيش في أيام المتنبي: السيف أصدق أنباء من الكتب .. في حده الحد بين الجد واللعب.
تبقى مشكلة أخيرة وهي أن بعض السياسيين لا يرون أبعد من أرنبة أنوفهم! تأملوا مثلاً حالياً أوباما، الذي شارك في قتل نصف مليون سوري، وإعاقة مليون، وتشريد عشرة ملايين، ما مهّد لولادة «داعش»، وامتداداتها في الثقافة العربية، بل ووصولها إلى أرض «اليانكي»، حيث سمعنا عن مقتل خمسة من جنود البحرية الأمريكية في تينسي على يد فلسطيني متجنّس.

 

 
خالص جلبي
مفكر إنساني يتكلم بلسانين من التراث والمعاصرة، يطير للمستقبل بجناحين من العلم والسلم