نافذة على الإعجاز العلمي للقرآن الكريم
نافذة على الإعجاز العلمي للقرآن الكريم*
منذ أن هبطت الديانات السماوية المنزلة وتناقلها الناس فيما بينهم بدأ البحث في الصلة بين العقل وبين الدين، بين منطق السماء ومنطق الأرض، ونحن نعلم أن لكل دين من الأديان خصومه وأنصاره المؤمنون به والكافرون، فريق يسعى إلى هدم منطق الوحي بالعقل، وآخر يحاول أن يقلل من شأن العقل في مقابل الوحي. وظهر بين هذين الفريقين فريق يحاول أن يوفق بين منطق العقل ومنطق الوحي. ونزعة التوفيق هذه أثيرت في كل من الفلسفة الإسلامية وفلسفة العصور الوسطى المسيحية.
وبين السعي نحو تعقل الإيمان أو السعي نحو إخضاع سلطة العقل لمنطق الوحي تجاوز كل فريق الحدود التي رسمها لنفسه، بمعنى أن كل فريق حاول أن يفسر ويؤول بحق وبغير حق منطق الطرف الآخر طبقاً لاتجاهه هو، فكان أن سعى الفلاسفة إلى تأويل الدين بطريقه لا تتفق كثيراً وطبيعة الدين، كما أن أنصار الوحي أساءوا إلى العقل واتهموه بالاضطراب والعجز أمام منطق الوحي.
وفي عصرنا الحاضر ظهرت هذه المشكلة من جديد ولو بطريقة أخرى ففي العصور القديمة كانت الفلسفة هي المسيطرة على حركة الفكر، أما في عصرنا الحاضر فإن السيطرة للعلم بما وصل إليه من تقدم مذهل. وهنا خرجت دعوات كثيرة لنبذ الدين والأخذ بالنظرة العلمية الصرفة في معالجة كافة الأمور، وتعرض الدين الإسلامي لحملات كثيرة تتهمه بالجمود وأنه يجافي العلم، وأرجعوا سبب تخلف المسلمين إلى الدين الإسلامي. وقد أثار هذه المشكلة وغيرها من المشكلات الزائفة كثيرة من المستشرقين وتلامذتهم من المسلمين، فما كان من الغيورين على دينهم إلا أن أنبروا للدفاع عن الإسلام وبيان أنه لا يجافي العلم فكانت كتابات الإمام محمد عبده ورشيد رضى وشكيب أرسلان وغيرهم كثير للرد على هذه التهم الزائفة.
وفي غمرة حملة الدفاع عن الدين الإسلامي ظهرت كتابات كثيرة تربط بين ما توصل إليه العلم من نظريات واكتشافات وبين الآيات القرآنية. وطبعاً قوبلت هذه الكتابات برضى شديد في العالم الإسلامي، وكثرت المؤلفات التي تتحدث عن الإعجاز العلمي للقرآن، وأقيمت الندوات والمؤتمرات للحديث عن هذه الناحية.
وتكمن هنا خطورة كبيرة في محاولة ربط الآيات القرآنية بالنظريات والاكتشافات العلمية، وذلك أن بعض العلماء في اندفاعهم في التفسير العلمي وفي محاولتهم ربط القرآن بالتقدم العلمي يندفعون في محاولة لربط كلام الله بنظريات علمية مكتشفة، يثبت بعد ذلك أنها غير صحيحة، وهم بذلك يتخذون خطوات متسرعة ويحاولون إثبات القرآن بالعلم، والقرآن ليس في حاجة إلى العلم ليثبت، فالقرآن ليس كتاب علم ولكنه كتاب عبادة ومنهج. بمعنى أن احتواء القرآن على بعض الآيات الكونية لا يبيح لكل من هب ودب أن يلتمس في القرآن دليلاً لنظرية علمية جديدة ولو على حساب معنى الآيات القرآنية.
إن حكمة الله عز وجل اقتضت وجود مثل هذه الآيات وذلك لاختلاف عقول الناس فمنهم من يؤمن بفطرته ومنهم من يطلب الدليل ومنهم من لا يؤمن إلا بمعجزة وهكذا. والقرآن الكريم عطاء متجدد، وهذا العطاء المتجدد ما هو إلا استمرار لمعنى إعجاز القرآن. ولو أفرغ القرآن عطاءه كله أو إعجازه في مدة معينة، لاستقبل القرون الأخرى دون إعجاز أو عطاء، وبذلك يكون قد جمد والقرآن لا يجمد وإنما يعطي لكل جيل بقدر طاقته ولكل فرد بقدر فهمه ويعطي للجيل القادم شيئاً لم يعطه للجيل الذي سبقه. والقرآن هو كلام الله المتعبد بتلاوته إلى يوم القيامة، لا تغيير ولا تبديل فيه، ومن هنا فإن خطورة ربط القرآن بنظريات علمية خاطئة - وما أكثرها - تجعل موقف المفسر في حرج عندما يثبت خطأ هذه النظرية، فهو لا يستطيع أن يغير أو يبدل في كلام الله، ولذلك يجب التروي والحذر قبل ربط أي نظرية علمية بكلام الله.
ولكي نبين خطورة هذا النوع من التفسير نعرض بإيجاز لتجربة مرت بها الديانة المسيحية في عصر النهضة. فمن المعروف أن رجال الدين المسيحي اعتمدوا على كثير من النظريات التي ابتدعها اليونان في تفسير بعض الظواهر الكونية. وقام ألبير الكبير والقديس توما الأكويني بالتوفيق بين مذهب أرسطو وتعاليم الكتاب المقدس بحيث جعلوا مذهب أرسطو يبدو في صورة مسيحية عقلية، واعتنق العالم المسيحي مذهبه ديناً إلى جانب دينه أو اعتبروه صورة عقلية لدينهم المنزل، فاتهم بالإلحاد كل من خرج على ما اعتمدته الكنيسة من أرائه وطورد كل من يبشر بفكرة لم ترد في تراثه.
وأدى ذلك العمل إلى جمود الفكر الأوروبي في العصور الوسطى وحبس العقل في مجال ضيق لا يسمح له أن يتعداه، ولكن حدث في عصر النهضة انقلاب كبير في ميادين العلم والفلسفة والفن نتيجة اتصال أوروبا بالعرب وترجمة مؤلفاتهم ومؤلفات اليونان. فهب العقل من سباته وثار في وجه الكنيسة المتعسفة وظهرت أراء جديدة مخالفة لما تقول به الكنيسة وما اعتمدته من أراء أرسطو وغيره من اليونان فقامت لمقاومة هذا الروح العلمي الجديد فأنشئت محاكم التفتيش واتهمت كثيراً من العلماء بالهرطقة والإلحاد ونكلت بهم وحرقت كتبهم.
فعندما أعلن كوبر نيقوس أن الشمس لا الأرض هي مركز الكون، وأن الأرض تدور دورة مزدوجة حول نفسها، صودر كتابه وحرمت قراءته على المؤمنين. وأعدم العالم كبلر؛ لأنه أيد كلام كوبر نيقوس، وحدث مثل ذلك لجاليليو بسبب منظاره؛ ولأنه قال بدوران الأرض حول نفسها مرة كل أربعة وعشرين ساعة ودورانها مرة واحدة كل سنة حول محورها، فأثار ذلك حنق رجال الدين وسجنوه.
وكان سبب هذا الاضطهاد هو أن الكنيسة اعتمدت أراء العالم اليوناني القديم بطليموس في تفسير حركة الكواكب، ولكن حقائق العلم لا يمكن مقاومتها، ومع الزمن أصبح الناس مقتنعين بالحقائق العلمية الجديدة وزاد إعجابهم واحترامهم للعلم وقل احترامهم للدين ورجاله، والسبب في ذلك هو رجعية رجال الدين وجمودهم ومحاولاتهم ربط النصوص الدينية بنظريات علمية ظناً منهم أن ذلك يخدم الدين. وهذا هو حال الدول الأوروبية الآن أصبحت النظرة المادية تحكم كل أمورها ولم يبق من الدين إلا الاسم وأصبحت القوانين الوضعية تحكم كل شيء.
وأنا لا أقول إن ذلك يمكن أن يحدث عندنا وفي ديننا الإسلامي، إلا إذا استمر المولعون بالتفسير العلمي للقرآن في طريقهم هذا المحفوف بالمخاطر والذي يمكن أن يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه. ونحن بذلك لا نقلل من شأن القرآن بل أننا بذلك ننصف القرآن، فلا يجب أن نتعامل مع القرآن على أساس أنه كتاب جاء ينبئنا بعلوم الدين فالقرآن لم يأت ليعلمنا أسرار علم الهندسة وعلم الفلك والكيمياء، ولكن القرآن في جوهره هو كتاب هدى وعبادة، والرسول الكريم يقول: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
فجميع الأديان السماوية إنما أرسلها الله إلى البشر لكي تصلح أخلاقهم وتعالج الفساد وعدم الأخلاق الذي انتشر بين الناس. قلب الرسالات السماوية يكمن في جانبها الأخلاقي الذي ينظم العلاقات بين العبد وربه وبين العبد وغيره من الناس. والدين الإسلامي جاء خاتم الديانات السماوية ولذلك عالجت الرسالة الإسلامية كافة ميادين الحياة من الناحية الأخلاقية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية بالإضافة إلى دعوتها للعلم.
ومن حكمة وإعجاز القرآن في هذه الناحية هو أنه لم يتطرق إلى الجزئيات التي تخص كل ناحية من نواحي الحياة، بل أنه جاء بمبادئ كلية عامة تصلح لكل زمان ومكان. فمثلاً من الناحية الاقتصادية وضع الإسلام المبادئ العامة للاقتصاد الإسلامي وكيف يجب أن يكون، ولكنه لم يتعرض إلى التفصيلات الجزئية المعروفة الآن والتي تتغير بتغير الزمان والمكان والذي تمكن من قيام هذا العلم على أساس علمي مدروس، فترك ذلك إلى البشر يجتهدون فيه كل حسب مصلحته وزمانه بحيث لا يتعارض ذلك مع مقاصد الشريعة، فتكلم الإسلام عن الملكية الفردية وطبيعتها ووسائل التملك ومجالات العمل المشروع وغير المشروع وأخلاقيات العمل التجاري وعن سبل الإنفاق وغيرها من المبادئ العامة. وأيضا دعا الإسلام إلى العلم والإعلاء من شأن العلماء ولكنه لم يتطرق إلى تفصيلات هذه العلوم وكيف يجب أن تكون.
وإذا كان بعض العلماء المسلمين يبحثون عن دور للإسلام في مجال العلم، فإن ذلك لا يمكن عن طريق ربط كل نظرية علمية جديدة بالنصوص القرآنية بل إن هذا الدور يكون من توجيه العلوم والاكتشافات العلمية الوجهة الصحيحة ولصالح البشرية.
وأريد أن أسأل سؤالاً: ما فائدة التقدم العلمي الكبير الذي أحرزته البشرية في القرنين الماضيين، وقد استخدم هذا التقدم في استعباد الشعوب الصغيرة؟ نعم إن البشرية في هذا العصر أكثر تقدماً آلاف المرات مما كانت عليه في الماضي، ولكن هل هذا التقدم جلب للبشرية السعادة والاستقرار والأمن؟ بالطبع لا، والسبب في ذلك هو غياب الوازع الديني والأخلاقي، وطغيان النظرة المادية في معالجة الأمور.
فمثلا اكتشاف الطاقة الذرية كان من أهم الاكتشافات في العصر الحديث. ولو أحسن استغلال هذا الكشف لتغيرت ملامح الكرة الأرضية، ولكن الذي حدث هو أن هذا الكشف أصبح من أكبر هموم البشرية نظراً لاستغلاله بطريقة غير أخلاقية لإذلال الشعوب الأخرى وجعلها تعيش في كابوس الخطر النووي.
وكم من الاكتشافات العلمية التي لو وجد الوازع الديني والأخلاقي لاستغلت لصالح البشرية، ولكن نظراً لغياب هذا الحس الديني والأخلاقي أصبحت هذه الاكتشافات نقمة على البشرية. وهنا يمكن أن نتحدث عن دور الدين الإسلامي في مجال العلم. وهو تسخير هذه الاكتشافات لصالح البشر ورخائهم. ولا يكون هذا الدور بالقول بأن القرآن اشتمل على أساسيات علم التربية الحديثة وعلى أساسيات علم الأجنة لمجرد وجود آية أو آيتين في القرآن تشير إلى هذا الموضوع أو ذاك. فبدلاً من أن يقوم علماؤنا الأفاضل بالبحث واستكشاف الطبيعة تلبية لدعوة القرآن فإنهم ينظرون وصول خبر الاكتشافات العلمية من الغرب ويبحثوا عن أساسيات هذه الاكتشافات في القرآن.
وأغرب دعوة قرأتها في هذا المجال هو ما يدعو إليه كثير من المؤلفين بالتفسير العلمي للقرآن من أنه لو حدث وبحثت الآيات القرآنية وجمعت وبوبت موضوعياً وقمنا ببحثها لوصل المسلمون لاكتشاف أغلب النظريات الحديثة من عدة قرون.
هذا هو فهم هؤلاء للعلم وهم أبعد الناس عن العلم لأن المنهج العلمي له شروطه ومنهجه فالكشف العلمي لم يتم عن طريق تحليل الألفاظ بطريقة معينة لاستخراج الأسرار منها بل يكون بالبحث والتجريب والاستقراء والصبر وإنكار الذات و حب العمل، لا حب الكلام والتفاخر بدين لا يستحقون أن ينتسبوا إليه.
* جريدة الوحدة الإماراتية 2 مارس 1987م.