22
13

القدس في الاستشراق اليهودي وتزييف الحقائق/ وليد سليمان

تاريخ النشر : 25 نوفمبر 2015 - 0.23:26 م

صورة

 

صورة

 

من رسومات الفنان المستشرق ديفيد روبرتوس

 

بيت المقدس ما زال الصراع عليه مستمراً سواء أكان هذا الصراع زمانياً أم مكانياً، فكرياً كان أم مادياً، وبالرغم من أشكال الارهاب المتمثل بالاحتلال مازال اليهود من خلال مفكريهم يحاولون خلخلة معتقدات المسلمين حول هذا المكان القدس.
وفي كتاب للباحث والصحفي المغربي دكتور العلوم السياسية «محمد رضوان» صدر حديثا بعنوان «القدس الشريف في الاستشراق اليهودي» عن مجلة «العربية» السعودية الصادرة في رمضان الماضي 2014 ، تطرق فيه إلى مواضيع استشراقية مختلفة حول القدس ومعتقدات المسلمين عنها حسب رؤية هؤلاء المستشرقين.

 

مكانة القدس الدينية
يُقلل المستشرقون اليهود من مكانة القدس عند المسلمين، ويزعمون أن اهتمامهم بها من الناحية الدينية لم يبدأ إلا في فترات عصيبة من تاريخهم عقب العهد النبوي والخلافة الراشدة.
ومع أن الشواهد والنصوص والوقائع تؤكد عناية المسلمين تاريخيا بالقدس، منذ فترة نزول الوحي الإلهي على النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) ، فإن المستشرقين اليهود لا يتوانون عن ترديد مزاعمهم تناقضها الحقائق.
فالتراث العربي الإسلامي، القديم والحديث، يضم مجموعة كبيرة من المصنفات والكتب والأشعار، التي تشيد بفضائل بيت المقدس، منها(فضائل البيت المقدس) لأبي بكر محمد بن أحمد الواسطي، و (فضائل بيت المقدس والخليل عليه الصلاة والسلام وفضائل الشام) للشيخ العلامة المشرف بن المرجا بن إبراهيم المقدسي، ورسالة (فضائل بيت المقدس) للإمام الحافظ بهاء الدين ابن عساكر، وهو مخطوط مصور بالجامعة العبرية من مجموعة يهودا، وكتاب (باعث النفوس إلى زيارة القدس المحروس) للعلامة ابن الفركاح، و (الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل ) لقاضي القضاة أبو اليمن مجير الدين الحنبلي، الذي أورد فيه معظم الروايات من الكتاب والسنة التي فيها إشارة واضحة لفضائل بيت المقدس.
وقد بذل العديد من الباحثين والدارسين بالمراكز العلمية والثقافية في العالم العربي والإسلامي في العقود الأخيرة جهودا مكثفة لجمع وتصنيف وتحقيق العديد من تلك المصنفات والكتب، ومن ذلك _ معجم ما ألف في فضائل وتاريخ المسجد الأقصى والقدس وفلسطين ومدنها من القرن الثالث الهجري إلى نكبة فلسطين سنه 1397هـ - 1948 م، الذي أعده شهاب الله بهادر، والذي يضم سلسلة طويلة من المؤلفات التي أبرزت فضائل بيت المقدس، وكان أول هذه المؤلفات، التي أشار إليها المعجم، كتاب ( فتوح بيت المقدس) لأبي حذيفة البخاري المتوفى في بداية القران الثالث الهجري سنة 206هـ.
وقبل إعداد هذا المعجم، كان الدكتور كامل جميل العسلي قد قدم دراسة وبيبلوغرافيا عن ( مخطوطات فضائل بيت المقدس) ذكر فيه 49 عنوانا مرتبا على القرون، بالإضافة إلى ما قام به محمود إبراهيم من دراسة تحليله في مؤلفه عن  فضائل بيت المقدس تبلغ نحو خمسين كتابا.
وتعكس تلك المصنفات والكتب عناية المسلمين واهتمامهم بيت المقدس في العصور السالفة إلى حد أن بعض الفقهاء والأئمة نبهوا إلى عدم الإفراط في إضفاء هالة التقديس التي يعارضها الشرع الإسلامي تجاه الأشخاص، أو الامكنه، أو الأزمان مهما بلغ شأنها. كما كان الفقهاء يرفضون اعتبار بيت المقدس في مستوى الكعبة المشرفة بمكة المكرمة، التي هي قبلة المسلمين في صلاتهم، ومهوى أفئدتهم، وفيها يتحقق الركن الخامس من شريعتهم.
ومن صور احتفاء المسلمين بالمسجد الأقصى ببيت المقدس، إلى جانب الكعبة المشرفة بمكة المكرمة، ما عبر عنه الشاعر الفرزدق في أحد أبياته التي جاء فيها:


وبيتان، بيت الله نحن ولاته ::: وبيت بأعلى إيلاء مشرف

 

إنكار فضائل بيت المقدس  
ولا شك أن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، التي شكلت قاعدة انطلاق تأليف المسلمين في فضائل بيت المقدس، عديدة ومشهورة منذ عهد النبوة المباركة وإلى اليوم، بحيث لا تحتاج إلى كبير جهد للتعرف عليها، كما أنه لا داعي لاستعراضها في هذه الدراسة نظرا لعلم أغلب الناس بها وانتشارها بصورة واسعة في كتب السيرة والفقه والتاريخ، إنما يهمنا في هذا المقام عرض القراءات المنحرفة والمغرضة للمستشرقين اليهود لهذه النصوص من اجل إثبات أحقية اليهود دون غيرهم، وخاصة المسلمين، بهذه البقعة المباركة.
فهؤلاء المستشرقون يصرون على إنكار أصالة فضائل بيت المقدس عند المسلمين، زاعمين إن ذلك ناتج عن اهتمام متأخر لم ينشأ إلا حينما دعت الحاجة إليه في عهد (عبد الملك بن مروان) الأموي الذي كان في نزاعه على الخلافة مع (عبد الله بن الزبير)، وبما أن هذا الأخير كان ينافس الأول في مكة المكرمة التي تحتضن الكعبة المشرفة، والتي كان يحج إليها الناس، فان مروان ارتأى – بزعم هؤلاء المستشرقين- بناء قبة الصخرة ببيت المقدس ليحول الحج إليها عوض الكعبة التي تتواجد بمنطقة التمرد التي تمثلها مكة.
ويلجأ المستشرقون لتدعيم هذه الرواية المختلفة إلى تأويل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، مما ينسجم مع قراءتهم السياسية للخلاف بين ابن مروان وابن الزبير، فيزعمون في تفسيرات منكرة أن المقصود بالمسجد الأقصى الوارد ذكره في سوره  الإسراء ليس هو بيت المقدس، الذي هو بايلياء، التي عرفت في ما بعد بالقدس، وإنما هو مصلى ( سماوي) علوي، وقد يكون بمقربة من مكة كالجعرانة أو المدينة، و ادّعوا  إن الرسول صلى الله عليه وسلم فهم المقصود بالمسجد الأقصى مسجداً  في السماء وليس على الأرض ببيت المقدس.
وتضم مراجع غربية عديدة هذا التفسير في سياق حديثها عن تاريخ (المسجد الأقصى)، كما هو الأمر في موسوعة دائرة المعارف البريطانية.
ومن هنا نشأت، في زعم اليهود، أهمية القدس في التاريخ الإسلامي، خاصة بعدما تجند بعض الفقهاء والعلماء في إضفاء هالة من الاعتبار الروحي والديني على هذه البقعة بإبراز فضائلها، فكان من ذلك حديث (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى)
ومن افتراءات الاستشراق اليهودي في هذا الباب ما يزعم رموزه من أن العالم المحدث محمد بن شهاب الزهري قد يكون، وهو في حداثة سنه، ممن تواطأ مع الخليفة عبد الملك بن مروان في وضع مثل هذا الحديث، والى جانب الزهري تقصف سهام الاستشراق المسمومة رواة وعلماء آخرين، وتتهمهم بالوضع كالشافعي، وبعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كأبي هريرة رضي الله عنه.
وانطلاقا من هذه الفرضيات، يقرر الباحثون والدارسون المنتسبون إلى هذه المدرسة الاستشراقية أن أهمية القدس في الإسلام لم تنشا إلا في القرن الثاني الهجري، ثم تعزز هذا الاهتمام وتواصل – بحسبهم- في المراحل التالية التي شهدت ازدهار آداب فضائل بيت المقدس، خاصة بعد الحروب الصليبية، وتحرير القدس على يد القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي في سنة 1187م-583هـ.
ومن هنا يمكن فهم اهتمام الدارسين اليهود بالمصادر والمخطوطات العربية والإسلامية التي تعنى بفضائل بيت المقدس، كمخطوطة (فضائل بيت المقدس) لأبي بكر محمد بن احمد الواسطي، التي صدرت مطبوعة ومحققة عن الجامعة العبرية بالقدس على يد (إسحاق حسون) بعدما تم الاستيلاء عليها من مكتبة جامع احمد باشا الجزار بمدينة عكا الفلسطينية.

استدراج الباحثين العرب إلى فخ الاستشراق


تحتضن الجامعة العبرية وجامعات إسرائيلية أخرى، دراسات وباحثين عرب الذين يقعون تحت تأثير المناهج الاستشراقية في هذا الموضوع، ومن ذلك ما كان قد ذهب إليه الباحث عادل مناع في كتابه (لواء القدس في أواسط العهد العثماني : الإدارة والمجتمع)، من إن الحملة الفرنسية شكلت منعطفا تاريخيا مهما في تاريخ فلسطين والقدس بعد مرحلة ضعف وتأخر في الفترة العثمانية، وهذا الكتاب يعد نسخة معدلة من أطروحة للدكتوراه كان قد تقدم بها للجامعة العبرية عن (لواء القدس بين حملتين 1798-1831م : الإدارة والمجتمع).
إلا انه بعد عقدين من صدور هذا الكتاب، استدرك الأستاذ مناع عدم دقة هذا الاستنتاج، الذي تروج له البحوث والدراسات الاستشراقية، ليتدارك الأمر في فصول كتاب موال بعنوان( تاريخ فلسطين في أواسط العهد العثماني)، من أن مكانه القدس عند المسلمين كمدينة مقدسة أولاها العثمانيون  اهتماماً خاصاً منذ قدومهم إلى المنطقة على غرار الاهتمام والعناية اللذين أولاهما العرب والمسلمون لهذه المدينة على امتداد تاريخهم.
لكن الدراسات الاستشراقية اليهودية عن آداب فضائل بيت المقدس في التراث العربي الإسلامي، وتاريخ القدس في الإسلام، لا تهدف إلى التقليل من شأن مكانة القدس عند المسلمين فحسب، وإنما تبغي أيضا الوصول إلى مزاعم لا تقل فجاجة، وهي انه إذا كانت هذه المدينة مقدسة بالأمس أو اليوم عند المسلمين، فإنما السبب في ذلك يعود إلى التأثيرات اليهودية والمسحية في الثقافة الإسلامية.
وفي هذا السياق، تسعى العديد من هذه الدراسات إلى أبراز شهادات ووقائع تزعم إن عامة المسلمين بفلسطين، وغيرها من البلدان العربية، كانت تعلي من شان القدس للبعد الديني والروحي اليهودي الذي ظلت تتمتع به بسبب ما كانت تحتضنه من اضرحه عديدة للأولياء والصلحاء اليهود، الذين كان يجلهم العامة من المسلمين على غرار المتدينين اليهود، وربما أكثر من هؤلاء أحيانا.
وتشير دراسات بهذا الخصوص إلى انه من مظاهر إجلال المسلمين للأضرحة اليهودية ما عرف في القرن الثالث عشر الميلادي من أن العامة من المسلمين كانوا يضعون الزيت والقرابين ( أو النذر ) على قبر يوناثان بن اوزيل ( r.jonathan ben Uzziel  )، وعلى مدفن العيزر بن هيركانو (Eliezer Ben hyrcanos )، كما كان المسلمون، وباتفاق مع اليهود، يعملون على تزيين ضريح هذا الأخير بالمصابيح كل يوم جمعة.
وينقل بعض الدارسين عن رحال يهودي من فلورنسا اسمه ميشولام دو فولتيرا، الذي كان قد زار مصر والقدس في1481-1482، انه لاحظ أضرحة عديدة لليهود بجوار القدس يوليها المسلمون تشريفا عظيما، حتى أنهم كانوا أحيانا يوجهون اللوم لليهود على إهمال الأضرحة.
ويبدو من ذلك إن ربط التأثيرات اليهودية في الإسلام والمسلمين، يعد جانبا من المقاربات النظرية التي يعتمدها الاستشراق اليهودي منذ مراحله الأولى، ولا زال عدد من المستشرقين المتأخرين يسيرون في هذا الاتجاه وتعميقه من خلال التشكيك في جميع النصوص والوثائق الإسلامية، والدعوة إلى استبدالها بمصادر غير عربية أو إسلامية في معرفة بداية نشأة الإسلام وحضارة المسلمين كالمصادر اليونانية والآرامية والبيزنطية والأرمينية والعبرية.
ولعل من المستشرقين المعاصرين الداعين إلى قراءة تاريخ الإسلام من خلال المصادر الأجنبية القديمة كل من المستشرقة الدانمركية  (باتريسيا كرون)، والمستشرق الأمريكي (مايكل كوك)، وذلك في كتاب مشترك لهما بعنوان (الهاجرية) (hagarism).
ويزعم هذان المستشرقان المنتميان إلى مدرسة الاستشراق الجديد، أو ما يعرف بالمدرسة الجذرية أو التصحيحية (Revisionism)
والتي برزت في سبعينيات القرن الماضي مع المستشرق الأمريكي (جون وانسبيرو)، إن جوهر الرسالة المحمدية (يهودي النزعة)، وان لفظه (إسلام) يمكن أن يؤرخ نشؤها بشكل دقيق في عام 691م بقبة الصخرة بالقدس.
ومن مهاترات هذين المستشرقين، زعمهما أن أتباع الإسلام الأوائل لم يكونوا يحملون اسم ( مسلمين) حسب مصادر يونانية وسريانية، وإنما كان يطلق عليهم اسم ( الهاجريين)، وهو لفظ كان يطلقه اليهود في الشام على المسلمين نسبة إلى السيدة « هاجر» زوجة نبي الله إبراهيم، أم إسماعيل عليهما الصلاة والسلام.
إن مثل هذه النزعة العنصرية التي تنضح بها العديد من الدراسات الاستشراقية في أوروبا والولايات المتحدة وإسرائيل، هي مما يشوب  الاستشراق ويعيبه ويفضحه، وقد تصدى لنقد هذه الظاهرة نقدا علميا مفحما عدة مفكرين من أصول عربية أو إسلامية، ومن المفكرين العرب أنور عبد الملك  في ستينات القرن الماضي بفرنسا، وادوارد سعيد في السبعينيات بالولايات المتحدة الأمريكية، وكلاهما عاب على الاستشراق خدمته للمشروع الاستعماري الأوروبي في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، مثلما يخدم الاستشراق اليهودي مشروع الاستيطان الصهيوني للأراضي العربية الفلسطينية وتهويد القدس وتقسيم الأقصى.