22
13

آلية عمل الذاكرة / خالص جلبي

تاريخ النشر : 26 أكتوبر 2015 - 21:53:05 م

آلية عمل الذاكرة

 

خالص جلبي

 

 

تعتبر آلية عمل الذاكرة حتى الآن لغزاً محيراً من عدة جهات فهل هناك مركز لها؟
في الدماغ مائة مليار خلية عصبية. كل خلية لها ألف ذراع على الأقل يسمونه الأكسون، لذا فتعقيد الدماغ لا يأتي من الرقم المخيف، بل من الترابط المرعب بين المليارات المائة.
لقد عثروا على أكثر من مائتي ألف استطالة في خلايا المخيخ بحيث تحقق توازننا العجيب ولو في النوم.
كيف تختزن المعلومات بالضبط؟ بل كيف تتشكل أصلاً؟ وما هي بوابة دخولها؟
لقد تمكن فريق علمي في جامعة (بون) في ألمانيا في (مركز الصرع) الذي يعتبر الأعظم في العالم، من كشف النقاب عن بوابة تشكل الذاكرة، الذي وضع هذا السر بين أيديهم رجوعهم إلى حالة غريبة حدثت في أمريكا على المريض (هاري مورجان) الذي كان يشكو من نوبات صرعية، وبرسم المخ وتصويره، تبين وجود ورم في منطقة الدماغ الأوسط مما جعل الجراح الأمريكي (ويليام سكوفيلWilliam Scoville) أن يقترح على المريض إجراء عملية جراحية، لاستئصال الورم؟
وبعد استئصال كتلة ورمية بحدود 8 سم من المنطقة الصدغية، استيقظ المريض من التخدير، وقد محيت ذاكرته بالكامل كما لو أن يداً جاءت فكتبت (ديليت) في الكمبيوتر؟
وحتى ذلك التاريخ قبل العملية، كان الرجل يتذكر الأشياء، أما بعدها فقد أصبح رجلاً آخر. فلم يعد يتذكر أي شيء قبل ذلك، فإذا دخل عليه زائر عرفه نسي أنه قابله قبل لحظات؟! وإذا وضع مفتاحه في مكان نسي مكانه، وإن تحدث معه أحد بكلمة عن شيء فهمها بدون مشكلة، ولكن بعد تركه للحظات تكون الكلمة وما حولها قد تبخرت ودلفت إلى مستودعات النسيان؟!
لقد تحولت ذاكرة السيد (مورجان) إلى غربال تتسرب منه كل قطرة من الذاكرة الحديثة، وبكلمة ثانية كانت (آلة) تشكيل الذاكرة عنده قد تعطلت بدون أمل في الإصلاح.
وبالمقابل فقد بقيت الذاكرة القديمة المحفوظة قبل العملية على ما هي عليه، فهو يتذكر الطفولة وكأنها مرسومة أمامه بريشة، كذلك خبرات الطفولة وما حوت.
ولكن المشكلة كانت في أي إضافة جديدة للذاكرة، وهذا يعني أن عملية تراكم الخبرة توقفت، لأن الإنسان ينمو بنمو الخبرات التي تأتي من الذاكرة.
كانت هذه المسألة قد شغلت بال الطبيب الكندي (وايلدر بنفيلد Wilder Penfield) حيث قام بإدخال الكترودات (مسابر) في غاية النحافة إلى الجمجمة، وتعرف على تضاريس دماغنا بشكل مثير، ومنه تحريض الذاكرة، حيث عرف أن تحريضاً كهربياً لمناطق بعينها، يحرض ليس صوراً بل أفلاما متحركة، لذكريات دفنت في العالم السفلي منذ عقود؟.
والمريض (هاري مورجان) مازال يعيش في نزل للمسنين، وعمليته كانت في عمر 27 سنة، ويعتبر ما حدث له كارثة عارمة، ولكنها كانت للطب كنزاً لا يقدر بثمن، فنحن الأطباء نتعلم من مصائب المرضى وموتهم أحيانا، والمريض يعطينا دروسا ليس بالمجان بل نقبض ثمنها رواتب مجزية، ومن مصيبة مورجان أمكن معرفة الأساس المادي للذاكرة والطرق العصبية التي تحكمها.