22
13

ثورة ليبيا.. الحقيقة الغائبة

تاريخ النشر : 15 أكتوبر 2015 - 10.55:24 ص

ثورة ليبيا.. الحقيقة الغائبة ([1])

 

لم يعد هناك مجال للسؤال عن حتمية التغيير الشامل في منطقتنا العربية، حتى تنهض شعوبنا وتنال حقها في الحرية والاستقلال من قيادات جلبت كافة انواع المصائب للامة، ولكن هذا التغيير لكي يؤتي ثماره لابد وان يكون نابعا ومعبرا عن حالة جماهيرية عامة تسري في جسد الامة، لها اهداف واضحة وتملك ادوات التغيير المطلوبة، وتجمع عليها غالبية اطياف المجتمع تكون مهمتها الأساسية تغيير النظام ووضع دستور جديد يلبي طموحات الأمة، للوصول الى تشكيل حكومات منتخبة، تكون مسؤولة أمام شعوبها في كل تصرفاتها.

وقد استطاعت كلا من الثورة التونسية والمصرية تحقيق بعض الانجازات في هذا المجال وينتظرهما الكثير من النضال للوصول الى تحقيق كافة الاهداف. اما الاحداث التي تدور الان في ليبيا وبعض الدول الاخرى، فمصيرها مجهول ومفتوح على سيناريوهات عديدة تخضع بالدرجة الأولى لعوامل داخلية وقوى خارجية تحاول استغلال الاحداث الجارية وتوجيهها لتحقيق اجندات خاصة، بعيدة كل البعد عن مطالب التغيير الوطني.

وفي قرائتنا لما يدور في ليبيا وسيناريوهاته المختلفة نجد منذ البداية غموضا كبيرا يحيط بما يدور هناك وتضارب للأنباء بين ما تنقله وسائل الاعلام المختلفة عربية او محلية او عالمية، يضاف الى ذلك ان المعلومات المتوفرة عما يدور كلها توضح الاختلاف الكبير بين ما يحدث في ليبيا وبين ما حدث في مصر وتونس وذلك من عدة جهات. 

1- لاحظنا في ثورتي تونس ومصر الطابع السلمي لهما بالرغم سقوط ضحايا على ايدي الحكومي، ولكن الجيش بقي على الحياد لفترة كبيرة، وكانت علاقته بالمتظاهرين جيدة حتى وصلنا الى اللحظة الحاسمة التي تدخل فيها الجيش وحسم الأمر لصالح المتظاهرين. 

2- في الحالة الليبية كان المتوقع ان يحدث نفس السيناريو، ولكن العكس حصل، فالبرغم مما قيل عن انضمام كتائب من الجيش للمحتجين، الا اننا لاحظنا عمليات تخريب ممنهجة لمعسكرات الجيش وقيام المحتجين باستخدام كافة انواع الاسلحة ضد الجيش وحدوث حرب شوارع وعمليات حرق وتخريب للممتلكات العامة وسيطرة المحتجين على مقرات الجيش ومستودعات الأسلحة.

3- في حالتي مصر وتونس كانت هوية الثوار معروفة وواضحة، تمثل كافة اطياف الشعب من شباب واحزاب ومثقفين وعمال، هذا بعكس احداث ليبيا التي كانت بدايتها الاولى شعبية ولكن فجأه تم اختطافها بواسطة جماعات مسلحة، غير معروفة الهوية والتوجه، وقررت حسم الصراع بالقوة المسلحة بدل الثورة الشعبية. 
4- لوحظ في احداث ليبيا غياب الفعاليات الشعبية في الداخل، من مثقفين ومعارضين، وتم التركيز على مثحدثين باسم الثورة من عواصم غربية مختلفة، لا تربطهم بالواقع اية صلة، ويروجون للتدخل الأجنبي، هذا بعكس ثورتي مصر وتونس التي كان المتحدثون باسمها يتكلمون من قلب الحدث، ومن وسط الجماهير. وحتى بعد السيطرة على مدن بنغازي وغيرها استمر الوضع على ما هو عليه، بل اختفت وجوه برزت في بداية الاحداث مثل وزير الداخلية المستقيل، وغيره من الضباط الذين قيل انهم انضموا للثوار.
5- لوحظ في احداث ليبيا سرعة التحرك العربي والدولي لحسم الامر لصالح القوى المعارضة للنظام، وتم العمل على استصدار قرارات من الجامعة العربية ومجلس الامن والمحكمة الجنائية الدولية ضد الحكومة الليبية والعقيد القذافي، بناء على معلومات وتقارير اخبارية صدرت من اطراف بعينها، ولم يتم التأكد من صدقها، هذا بعكس ما حدث في مصر وتونس.

6- في احداث ليبيا وجدنا كم هائل من الفتاوى الدينية التي تحرض المحتجين على قتال النظام الليبي، صدرت من شيوخ معروف عنهم فتاويهم المتكررة بحرمه الخروج على ولي الامر حتى ولو كان فاجرا، حتى وصلنا الى الفتوى الغريبة للقرضاوي الذي أباح دم العقيد القذافي، والتي لا يوجد لها أي سند ديني. وفي نفس الوقت برر نفس هؤلاء الشيوخ تسلط انظمة غارقة في الفساد وحرموا التظاهر ضدها او انتقادها، ولم يشيروا من قريب او بعيد لما يحدث في دولهم.

7-  بالرغم من انني سجلت في مقالات سابقة ملاحظاتي على التغطية الاعلامية لاحداث مصر وتونس، وعدم موضوعيتها بالذات من قبل قناتي "الجزيرة" و"العربية"، الا انني أجد نفسي عاجزا عن سرد وتوضيح حجم الكذب والتزييف والتضليل الذي مارسته هاتات القناتان في تغطية احداث ليبيا، وسأذكر بعض الحوادث التى تبين ذلك:

- زعمت هاتان القناتان ان النظام الليبي استخدم الطائرات لضرب المحتجين، ولكن حتى اللحظة لم تستطع اي منهما بث صوره او حادثة تؤكد هذا الزعم الذى جعل معظم الناس في العالم يتعاطفون مع الثوره الليبية، ولهذا وجدنا اوباما يصرح بالامس فقط بانه لديه اتباثات عن استخدام الطائرات ضد المحتجين، ولكنه لم يعرض الصور ليتأكد الناس منها. وفي احدى المرات واثتاء متابعتي لقناة "العربية" تم عرض تقرير عن عمليات قصف طائرات القذافي لمطار بنغازي، وعند متابعتي للتقرير لم يشر مراسل "العربية" الى اية عمليات قصف للمطار بل كل ما ذكره هو كيفية استيلاء المسلحين على المطار وملاحقتهم للساعدي ابن القذافي واصابة سيارته بأعيرة نارية، اما القصف الذي كان عنوان التقرير فلم تتم الاشارة اليه او اظهار صوره.

- منذ بداية الاحداث تم نشر آلاف الاخبار العاجلة التي تفيد بسقوط هذه المدينة او تلك واخبار عن مرتزقة وعمليات قصف وقتل وهروب القذافي وعائلته وغيرها، ولكن لغاية اللحظة ظهر كذب اغلبها وفبركتها. ففي تقرير لمراسل "العربية" من مدينة الزاوية اشار مراسل "العربية" الى وجود ثلاثة آلاف متظاهر في وسط المدينة يتظاهرون سلميا، وقوات الجيش تراقبهم من بعيد، وبالرغم من ذلك كان مذيعوا العربية والجزيره يصرون على القول بسقوط الزاوية في يد الثوار.

- لوحظ غياب الموضوعية في نقل الاحداث، او شعار الرأي والرأي الآخر الذي تتبجح به هذه القنوات، فاذا كنا نقر بوجود احتجاجات في ليبيا، الا ان هناك صورة اخرى غائبة او غيبت عمدا، وهو تلك المظاهرات الكبيرة في كثير من المدن الليبية المؤيدة للقذافي، بل ان القذافي لم يلقي خطبه المتعددة من غرف مغلقة او تحت الارض بل في ساحات عامة، وهناك صور يبثها التلفزيون الليبي وبعض الفضائيات الاجنبية لحياة طبيعية في طرابلس ومدن اخرى، بل ان هناك صورة اخرى قاتمة تعيشها المدن التي خرجت من سيطرة الحكومة، عبر عنها كثير من المتصلين بالتلفزيون والاذاعة الليبية، تصور حالة الفوضى والرعب التي تعيشها هذه المدن. وسواء صحت تلك الروايات ام كذبت فهي جزء من الصوري والحقيقة الغائبة.

- شاهدت على التلفزيون الليبي مشاهد لمن يسموا بالثوار وهم يحققون مع بعض افراد الجيش الليبي، وبعد ذلك قتلوهم ورموا جثتهم في الشارع، وهذه الصور نفسها تم نشر بعضها في "الجزيرة" و"العربية" على انها جثت المتظاهرين الذين قصفوا بالطائرات. بل ان احد افراد الجيش الليبي ذو بشره سوداء عرضت جثته على انه احد المرتزقة ولكن التلفزيون الليبي عرض مكالمة لشخص ليبي قال ان القتيل هو ابن عمه وقال اسمه بالكامل. 

مما تقدم يمكن استخلاص بعض النتائج:

1- ان ما يحدث في ليبيا لا يمكن لأي عاقل ان يسميه ثوره شعبية بالمعنى المعروف للكلمة، بل هي اقرب الى التمرد المسلح والمواجهات بين الجيش الليبي وبين جماعات مسلحة بكافة انواع الأسلحة، قامت بالاستيلاء على مقرات حكومية نتج عنها تدمير وقتل وارهاب، وإحداث شلل كامل في اماكن المواجهات وترويع للأهالي وتدمير لممتلكاتهم، هذا بعكس ما حدث في مصر وتونس. وبحسب القوانين المحلية والدولية فان المظاهرات والاحتجاجات تفقد شرعيتها وقانونيتها فورا بمجرد لجوئها الى استخدام القوه بكافة اشكالها، ومن حق الدولة استخدام القوة ضد قوى التمرد.

2- ان من سموا زورا بالثوار لم يكونوا محتجين عاديين من عامة الشعب لهم مطالب معينة كحالتي مصر وتونس، بل هم أناس مدربون جيدا ولديهم معلومات كافية وجهة توجههم وتقودهم، كما انهم لا يمكن ان يكونوا من الجيش الليبي، والا فكان الأسهل لهم ولقيادتهم قيادة التمرد باسم الجيش نفسه وهذا يمنحهم شرعية كبيرة ويجعل الشعب يلتف حولهم، وهنا يظل احتمال كونهم من تنظيم القاعدة او من جماعات اخرى كما تقول الجهات الليبية الرسمية احتمال كبير وله ما يبرره، وبالذات بعد انتشار عناصر هذا التنظيم في منطقة الصحراء الكبرى وقيامهم بعمليات اختطاف اجانب ومواجهات مع جيوش حكومية في تلك المنطقة، على مدى الشهور الماضية.

3- -هناك غياب للأدلة القاطعة على طبيعة ما يحدث تجعلنا نشك في كل ما يذاع على الفضائيات ويجعلنا نستذكر أكاذيب امريكا والغرب لتبرير غزو العراق وتدميره. فاذا كانت أمريكا حتى اللحظة لم تستطع اثبات استخدام الطائرات ضد المدنيين، فلماذا تم اتخاذ اجراءات ضد ليبيا في مجلس الامن والمحكمة الجنائية وتجميد أموال بناء على تقارير وأخبار غير مؤكدة؟

4- يضاف الى ما تقدم غياب التغطية الاعلامية الموضوعية لما يحدث، حيث ان مصادر المعلومات اصبحت قاصرة على ما ثبته قناتي "الجزيرة" و"العربية" والقنوات الاجنبية، بما فيها من تحيز وانتقائية، وغياب الوجه الآخر من الصورة. فالرواية الرسمية مغيبة، كما ان اعتماد الإثاره ونشر اخبار وصور بدون توثيق او معرفة مصدرها اصبح طابع عام لهذه القنوات.

5- في الوقت الذى تقوم فيه "الجزيرة" و"العربية" بالتركيز على الحدث الليبي يتم التغاضي واهمال إحداث أخرى في المنطقة مثل البحرين وعمان والأردن والعراق، وهذا يكشف ازدواجية في التعامل مع الأحداث، ويجعلنا نشك بالأهداف التي تسعى اليها هذه القنوات، وارتباطها باجندات خارجية لا تمت بصله لما يقال عن نشر الديمقراطية والحرية، ومحاربة الفساد، بل لن نكون مبالغين لو أيدنا ما قاله الرئيس اليمني على عبدالله صالح بأن هذه الثورات تدار من غرفه في تل ابيب وواشنطن، والا كيف يمكن تفسير ترحيب اوباما واسرائيل بما يدور.

6- سيكون لما يحدث في ليبيا انعكاسات خطيرة على مستقبل التغيير في المنطقة، فبعد ان كسرت الشعوب حاجز الخوف من الأنظمة الحاكمة، جاءت أحداث ليبيا لتعطي مثلا سيئا ومرعباً، لمستقبل التغيير، بسبب حجم الدمار والفوضى وخطر الحرب الاهلية، والتدخل الاجنبي، وهذا سيجعل الشعوب تفكر ألف مرة وتخاف من مصير مشابه لثوراتها ومطالبها العادلة، وستعطى للانظمة مبرر للبطش بأية مطالب للتغيير.

وفي النهاية لا يسعني إلا أن أكرر ما قاله الدكتور سيار الجميل من أن الثورة الحقيقية تصنعها الشعوب ولا يخرجها خبراء في استويوهات أفلام إعلامية، ولا في دوائر مؤامرات خارجية.. ولا ينجزها محتل غاشم يفرض أجندته على أي شعب من الشعوب.. ولا تمثلها جوقة من الضباط الذين يسمون انفسهم بـ"الاحرار" ليقوموا بانقلاب عسكري دموي او صوري، ولا تتبنى أكذوبتها شلة حزبية قوامها أولاد شوارع من المتسكعين الفاشلين، ولا يتبجح بها معارضون ساقطون تنقلوا على كل الموائد، وقد نصبّهم المحتل على حكم البلاد والعباد.. ولكم في تجربة العراق وافغانستان عبرة يا أولي الالباب..!! 

 

 

 

[1] 5 اّذار 2011